فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

سورة الجن:
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{قُلْ أوحي إليّ أنّهُ اسْتمع نفرٌ مِّن الْجِنِّ} أي: لهذا القرآن الحكيم. والمشهور أن النفر ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقد يستعمل إلى الأربعين كالرهط، كما في (المُجمل).
قال القاشاني: قد مرّ أن في الوجود نفوسا أرضية قوية، لا في غلظ النفوس السبعية والبهيمية وكثافتها، وقلة إدراكها، ولا على هيئات النفوس الْإِنْساْنية واستعداداتها، ليلزم تعلقها بالأجرام الكثيفة الغالب عليها الأرضية، ولا في صفاء النفوس المجردة ولطافتها لتتصل بالعالم العلويّ، وتتجرد متعلقة بأجرام عنصرية لطيفة، غلبت عليها الهوائية أو النارية أو الدخانية، على اختلاف أحوالها، سماها بعض الحكماء الصور المعلقة، ولها علوم وإدراكات من جنس علومنا وإدراكاتنا. ولما كانت قريبة بالطبع إلى الملكوت السماوية، أمكنها أن تتلقى من عالمها بعض الغيب، فلا تستبعد أن ترتقي إلى أفق السماء فتسترق السمع من كلام الملائكة، أي: النفوس المجردة، ولما كانت أرضية ضعيفة بالنسبة إلى القوى السماوية، تأثرت بتأثير تلك القوى، فرجمت بتأثيرها عن بلوغ شأوها، وإدراك مداها من العلوم، ولا ينكر أن تشتعل أجرامها الدخانية بأشعة الكواكب فتحترق وتهلك، أو تنزجر من الارتقاء إلى الأفق السماوي فتتسفل، فإنها أمور ليست بخارجة عن الإمكان، وقد أخبر عنها أهل الكشف والعيان الصادقون من الأنبياء والأولياء، خصوصا أكملهم نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وفي الآية- كما قال القاضي- دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم ما رآهم، ولم يقرأ عليهم، وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها، فأخبر الله به رسوله.
{فقالواْ} أي: لما رجعوا إلى قومهم {إِنّا سمِعْنا قرآنا} قال المهايميّ: أي: كتابا جامعا للحقائق الإلهية والكونية، والأحكام والمواعظ، وجميع ما يحتاج إليه في أمر الدارين.
{عجبا} أي: غريبا، لا تناسبه عبارة الخلق، ولا يدخل تحت قدرتهم. {يهْدِي إِلى الرُّشْدِ} أي: إلى الحق وسبيل الصواب {فآمنّا بِهِ ولن نُّشْرِك بِربِّنا أحدا} أي: من خلقه، في العبادة معه.
تنبيهات:
الأول: هذا المقام شبيه بقوله تعالى: {وإِذْ صرفْنا إِليْك نفرا مِّن الْجِنِّ يسْتمِعُون القرآن} [الأحقاف: 29] الآية. وقد روى البخاري عن ابن عباس قال: «انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ»، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب! فرجعت الشياطين فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حِيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب! قال: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا ما حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الأمر الذي حدث؟ فانطلقوا فضربوا مشارق الأرض ومغاربها، ينظرون ما هذا الأمر الذي حال بينهم وبين خبر السماء! قال: فانطلق الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة، وهو عامد إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن تسمّعوا له، فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا! إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا.
وأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ أوحي إليّ أنّهُ اسْتمع نفرٌ مِّن الْجِنِّ} وإنما أوحي إليّه قول الجن.
ورواه مسلم أيضا وزاد في أوله: ما قرأ رسول الله على الجن ولا رآهم، انطلق..... إلى آخره.
الثاني: قال الماوردي: ظاهر الآية أنهم آمنوا عند سماع القرآن. قال: والإيمان يقع بأحد أمرين: إما بأن يعلم حقيقة الإعجاز وشروط المعجزة، فيقع له العلم بصدق الرسول، أو يكون عنده علم من الكتب الأولى، فيها دلائل على أنه النبيّ المبشر به، وكلا الأمرين في الجن محتمل. انتهى.
الثالث: قال الرازي: في الآية فوائد:
إحداها: أن يعرفوا بذلك أنه عليه السلام كما بعث إلى الإنس، فقد بعث إلى الجن.
وثانيها: أن يعلم قريش أن الجن، مع تمردهم، لما سمعوا القرآن عرفوا إعجازه، فآمنوا بالرسول.
وثالثها: أن يعلم القوم أن الجن مكلفون كالإنس.
ورابعها: أن يعلم أن الجن يستمعون كلامنا، ويفهمون لغاتنا.
وخامسها: أن يظهر أن المؤمن منهم يدعو غيره من قبيلته إلى الإيمان.
وفي كل هذه الوجوه مصالح كثيرة إذا عرفها الناس. انتهى.
ولما سمعوا القرآن، ووفّقوا للتوحيد والإيمان، تنبهوا على الخطأ فيما اعتقده كفرة الجن من تشبيه الله بخلقه، واتخاذه صاحبة وولدا، فاستعظموه، ونزّهوه عنه، فقالوا:
{وأنّهُ تعالى جدُّ ربِّنا ما اتّخذ صاحِبة ولا ولدا} [3]
{وأنّهُ تعالى جدُّ ربِّنا ما اتّخذ صاحِبة ولا ولدا} أي: تعالى ملكه وعظمته، وصدق ربوبيته، عن اتخاذ الصاحبة والولد.
قال ابن جرير: الجدّ بمعنى الحظ. يقال: فلان ذو جد في هذا الأمر إذا كان له حظ فيه، وهو الذي يقال له بالفارسية: البخت. والمعنى: أن حظوته من الملك والسلطان والقدرة العظيمة عالية، فلا تكون له صاحبة ولا ولد، لأن الصاحبة إنما تكون للضعيف العاجز الذي تضطره الشهوة الباعثة إلى اتخاذها، وأن الولد إنما يكون عن شهوة أزعجته إلى الوقاع الذي يحدث منه الولد. فقال النفر من الجن: علا ملك ربِّنا وسلطانه وقدرته وعظمته أن يكون ضعيفا ضعف خلقه، الذين تضطرهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة، أو وقاع شيء يكون منه ولد.
{وأنّهُ كان يقول سفِيهُنا} يعنون به مضلهم ومغويهم {على اللّهِ شططا} أي: قولا ذا شطط. صفة لقول مقدر بتقدير مضاف. أو جعل عين الشطط مبالغة فيه. وأصله مجاوزة الحد، والمراد منه نسبة الصاحبة والولد إلى الله تعالى: {وأنّا ظننّا أن لّن تقول الْإِنسُ والْجِنُّ على اللّهِ كذِبا} أي: في نسبة ما ليس بحق، إليه سبحانه. وهو اعتذار عن اتباعهم السفيه في ذلك، لظنهم أن أحدا لا يكذب على الله، حتى تبيّن لهم بالقرآن كذب السفيه وافتراؤه.
{وأنّهُ كان رِجالٌ مِّن الْإِنسِ يعُوذُون بِرِجالٍ مِّن الْجِنِّ فزادُوهُمْ رهقا} روى ابن جرير عن ابن عباس قال: كان رجال من الإنس يبيت أحدهم بالوادي في الجاهلية فيقول: أعوذ بعزيز هذا الوادي، فزادهم ذلك إثما. ففي الآية إشارة إلى ما كانوا يعتقدون في الجاهلية من أن الوديان مقرُّ الجن وأن رؤساءها تحميهم منهم. وهكذا قال إبراهيم: كانوا إذا نزلوا الوادي قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي من شر ما فيه، فتقول الجن: ما نملك لكم ولا لأنفسنا ضرا ولا نفعا.
وقال الربيع بن أنس: كانوا يقولون: فلان من الجن ربّ هذا الوادي، فكان أحدهم إذا دخل الوادي يعوذ برب الوادي من دون الله. قال: فيزيدهم ذلك رهقا، وهو الفرق.
وقال ابن زيد: كان الرجل في الجاهلية إذا نزل بوادٍ قبل الإسلام قال: إني أعوذ بكبير هذا الوادي. فلما جاء الإسلام، عاذوا بالله وتركوهم. انتهى.
أي: لأن ذلك من الشرك، ولذا نزلت سورتا المعوذتين لتعليم الاستعاذة بالله تعالى وحده والتبرؤ من الاستعاذة بغيره، وكذلك أذكار الاستعاذات المأثورة، فإنها للإرشاد لذلك.
روى مسلم عن خولة بنت حكيم قالت: من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك.
قال بعضهم: في الحديث تفسير آية الجن، وأن ما فيها من الشرك، وأن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية من كف شر، أو جلب نفع، لا يدل على أنه ليس من الشرك.
وفي الآية تأويل غريب، نقله الرازيّ وهو أن المراد كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الإنس أيضا، لكن من شر الجن، مثل أن يقول الرجل: أعوذ برسول الله من شر جن هذا الوادي. وأصحاب هذا التأويل، إنما ذهبوا إليه لأن الرجل اسم الإنس لا اسم الجن. وهذا ضعيف؛ فإنه لم يقم دليل على أن الذكر من الجن لا يسمى رجلا. انتهى. والضمير المرفوع في {فزادُوهُمْ} للجن، على معنى: فزادوهم باستعاذتهم بهم، غيّا وإثما وضلالا. أو للإنس على معنى: فزادوا الجن باستعاذتهم كبرا وعتوّا.
والرهق في الأصل غشيان الشيء، فخص بما يعرض من الكبر أو الضلال.
{وأنّهُمْ} أي: وأوحي إليّ أن الجن {ظنُّوا كما ظننتُمْ} أي: في جاهليتكم.
{أن لّن يبْعث اللّهُ أحدا} أي: رسولا إلى خلقه يدعوهم إلى توحيده وما فيه سعادتهم. أو لن ينشر الله أحدا من قبره للحساب والجزاء.
وقيل: الضمير في {وأنّهُمْ} للإنس، ذهابا إلى أن قوله: {وأنّهُ كان رِجالٌ} {وأنّهُمْ ظنُّوا} من كلام الجن، والخطاب لهم.
{وأنّا لمسْنا السّماء} أي: تطلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها {فوجدْناها مُلِئتْ حرسا شدِيدا وشُهُبا} أي: حفظة ورواجم.
{وأنّا كُنّا نقْعُدُ مِنْها مقاعِد لِلسّمْعِ فمن يسْتمِعِ الْآن يجِدْ لهُ شِهابا رّصدا} أي: كنا نقعد من السماء مقاعد لنستمع ما يحدث، وما يكون فيها، فمن يستمع الآن يجد له شهاب نار قد رصد له.
قال الزمخشريّ: وفي قوله: {مُلِئتْ} دليل على أن الحادث هو الملء والكثرة، وكذلك قوله: {نقْعُدُ مِنْها مقاعِد} أي: كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب. والآن ملئت المقاعد كلها. وهذا ذكر ما حملهم على الضرب في البلاد حتى عثروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمعوا قراءته.
{وأنّا لا ندْرِي أشرٌّ أُرِيد بِمن فِي الْأرْضِ أمْ أراد بِهِمْ ربُّهُمْ رشدا} يعنون أن ما حدث من منعهم السمع من السماء، ورجم من استمع منهم بالشهب، كانوا يقولون هو لأمر عظيم أراده الله بأهل الأرض، إما عذاب أو رحمة، أي: حتى علموا بعد باستماعهم القرآن، أنه لخير أريد بهم، وذلك بعثة نبيّ مصلح يرشد إلى الحق.
قال الناصر: ولقد أحسنوا الأدب في ذكر إرادة الشر محذوفة الفاعل. والمراد بالمريد هو الله عز وجل، وإبرازهم لاسمه عند إرادة الخير والرشد.
{وأنّا مِنّا الصّالِحُون} أي: المسلمون العاملون بطاعة الله {ومِنّا دُون ذلِك} أي: قوم دون ذلك، وهم المقتصدون في الصلاح غير الكاملين فيه، أو الكافرون {كُنّا طرائِق قِددا} أي: أهواء مختلفة، وفرقا شتى. وهذا بيان للقسمة قبلُ. أي: كنا مثلها أو ذويها. والطرائق: جمع طريقة، وهي طريقة الرجل ومذهبه. والقدد الضروب والأجناس المختلفة، جمع قدّة كالقطعة.
{وأنّا ظننّا} أي: علمنا {أن لّن نُّعجِز اللّه فِي الْأرْضِ} أي: إن أراد بنا سوءا {ولن نُّعْجِزهُ هربا} أي: إن طلبنا.
قال الزمخشريّ: هذه صفة أحوال الجن، وما هم عليه من أحوالهم وعقائدهم، منهم أخيار وأشرار، ومقتصدون، وأنهم يعتقدون أن الله عز وجل عزيز غالب لا يفوته مطلب، ولا يُنجي عنه مهرب.
{وأنّا لمّا سمِعْنا الْهُدى} أي: القرآن الذي يهدي إلى الطريق المستقيم {آمنّا بِهِ} أي: صدّقنا بأنه حق من عند الله، {فمن يُؤْمِن بِربِّهِ فلا يخافُ بخْسا} أي: أن ينقص من حسناته فلا يجازى عليها {ولا رهقا} أي: أن ترهقه ذّلة، وتلحقه هيئة معذبة موجبة للخسوء والطرد. يعني: أنه يجزى الجزاء الأوفى، وتكون له في العز العاقبة الحسنى.
{وأنّا مِنّا الْمُسْلِمُون ومِنّا الْقاسِطُون} أي: الكافرون الجائرون عن طريق الحق، {فمنْ أسْلم} أي: أذعن وانقاد {فأُوْلئِك تحرّوْا رشدا} أي: ترجّوا وتوخوا رشدا عظيما، وقصدوا صوابا واستقامة. وقوله: {فمنْ أسْلم} إلخ من كلام الله أو الجن. قال الزمخشريّ: وقد زعم من لا يرى للجن ثوابا، أن الله تعالى أوعد قاسطيهم، وما وعد مسلميهم، وكفى به وعدا أن قال: {فأُوْلئِك تحرّوْا رشدا} فذكر سبب الثواب وموجبه. والله أعدل من أن يعاقب القاسط، ولا يثيب الراشد.
{وأمّا الْقاسِطُون فكانُوا لِجهنّم حطبا} أي: توقد بهم، كما توقد بكفار الإنس.
{وألّوِ اسْتقامُوا} أي: الجن أو الإنس أو كلاهما {على الطّرِيقةِ} أي: طريقة الحق والعدل {لأسْقيْناهُم مّاء غدقا} أي: لوسعنا عليهم الرزق. وإنما تجوز بالماء الغدق- وهو الكثير- عما ذكر؛ لأنه أصل المعاش وسعة الرزق، ولعزة وجوده بين العرب، أو لأن غيره يعلم منه بالأولى {لِنفْتِنهُمْ فِيهِ} أي: لنختبرهم فيه كيف يشكرون ما خولوا منه.
{ومن يُعْرِضْ عن ذِكْرِ ربِّهِ} أي: عبادته أو موعظته {يسْلُكْهُ عذابا صعدا} أي: شديدا شاقا.
قال الزمخشري: الصعد: مصدر صعد، يقال: صعد صعدا وصعودا، فوصف به العذاب لأنه يتصعد المعذب، أي: يعلوه ويغلبه فلا يطيقه.
{وأنّ الْمساجِد لِلّهِ} أي: مختصة به {فلا تدْعُوا مع اللّهِ أحدا} أي: فلا تعبدوا فيها غيره. تعريض بما كان عليه المشركون من عبادتهم غيره تعالى بمسجده الحرام، ونصبهم في التماثيل والأنصاب، وبما عليه أهل الكتاب، فإن المساجد لم تُشدْ إلا ليذكر فيها اسمه تعالى وحده. ومن هنا ذهبت الحنابلة إلى أنه لا يجتمع في دين الله مسجد وقبر، وأن أيهما طرأ على الآخر وجب هدمُه.
{وأنّهُ لمّا قام عبْدُ اللّهِ} يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، {يدْعُوهُ} أي: يعبد ربه، {كادُوا يكُونُون عليْهِ لِبدا} أي: جماعات بعضها فوق بعض، تعجبا مما رأوه من عبادته، واقتداء أصحابه به، وإعجابا بما تلا من القرآن، لأنهم رأوا ما لم يروا مثله، وسمعوا بما لم يسمعوا بنظيره. فالضمير في {كادُوا} للجن، وقد بيّن ذلك حديث البخاري كما تقدم. وجوّز رجوعه للمشركين بمكة. والمعنى: لما قام رسولا يعبد الله وحده، مخالفا للمشركين في عبادتهم الآلهة من دونه، كاد المشركون لتظاهرهم عليه، وتعاونهم على عداوته، يزدحمون عليه متراكمين- حكاه الزمخشري- ثم قال: {لِبدا} جمع لبدة، وهو ما تلبد بعضه على بعض، ومنها لبدة الأسد.
{قُلْ إِنّما أدْعُو ربِّي ولا أُشْرِكُ بِهِ أحدا قُلْ إِنِّي لا أمْلِكُ لكُمْ ضرّا ولا رشدا} [20- 21]
{قُلُ} وقرئ قال: {إِنّما أدْعُو ربِّي} أي: أعبده، وأبتهل إليه وحده، {ولا أُشْرِكُ بِهِ أحدا} أي: فليس ذلك ببدع ولا منكر يوجب تعجبكم، أو إطباقكم على مقتي.
{قُلْ إِنِّي لا أمْلِكُ لكُمْ ضرّا ولا رشدا} أي: لأن ذلك لله تعالى، وحده، فلا تستعجلوني بالعذاب.
قال الشهاب في توضيح ما للقاضي هنا: إما أن يراد بالرشد النفع، تعبيرا باسم السبب عن المسبب، أو يراد بالضرّ الغيّ، تعبيرا باسم المسبب عن السبب. ويجوز أن يجرد من كل منهما ما ذكر في الآخر، فيكون احتباكا. والتقدير: لا أملك لكم ضرا ولا نفعا، ولا غيّا ولارشدا.
{قُلْ إِنِّي لن يُجِيرنِي مِن اللّهِ أحدٌ} أي: إن أراد بي سوءا {ولنْ أجِد مِن دُونِهِ مُلْتحدا} أي: ملتجأ إن أهلكني. وأصله: المدخل من اللحد.
وقوله: {إِلّا بلاغا مِّن اللّهِ ورِسالاتِهِ} استثناء من قوله: {لا أمْلِكُ} فإن التبليغ إرشاد ونفع. فهو متصل، وما بينهما اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة، أي: لا أملك إلا التبليغ والرسالات، من معاني الوحي، وأحكام الحق.
{ومن يعْصِ اللّه ورسُولهُ} أي: فلم يسمع ما جاء به، ولم يقبل ما يبلغه {فإِنّ لهُ نار جهنّم خالِدِين فِيها أبدا حتّى إِذا رأوْا ما يُوعدُون} أي: في الرسالات الإلهية، من الظهور عليهم والفتح، أو العذاب الأخروي.
{فسيعْلمُون منْ أضْعفُ ناصِرا وأقلُّ عددا} أي: أجند الرحمن أو إخوان الشياطين.
{قُلْ إِنْ أدْرِي أقرِيبٌ مّا تُوعدُون أمْ يجْعلُ لهُ ربِّي أمدا} أي: غاية تطول مدتها.
{عالِمُ الْغيْبِ فلا يُظْهِرُ على غيْبِهِ أحدا إِلّا منِ ارْتضى مِن رّسُولٍ فإِنّهُ يسْلُكُ مِن بيْنِ يديْهِ ومِنْ خلْفِهِ رصدا} أي: حرسا من الملائكة يحفظونه من تخاليط الشياطين ووساوسهم، حتى يبلغ ما أمر به من غيبه ووحيه.
قال القاشاني: {رصدا} أي: حفظة إما من جهة الله التي إليها وجهه، فروح القدس والأنوار الملكوتية والربانية. وإما من جهة البدن، فالملكات الفاضلة والهيئات النورية الحاصلة من هياكل الطاعات والعبادات، يحفظونه من تخبيط الجن، وخلط كلامهم من الوساوس والأوهام والخيالات، بمعارفها اليقينية، ومعانيها القدسية، والواردات الغيبية، والكشوف الحقيقية. انتهى.
تنبيه:
قال الزمخشري: يعني أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضى الذي هو مصطفى للنبوة خاصة، لا كل مرتضى.
قال: وفي هذا إبطال للكرامات؛ لأن الذين تضاف إليهم، وإن كانوا أولياء مرتضين، فليسوا برسل، وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب، وإبطال الكهانة والتنجيم، لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط. انتهى.
وأجاب أبو السعود بأن معنى الآية: فلا يطِلع على غيبه اطلاعا كاملا ينكشف به جلية الحال انكشافا تاما موجبا لعين اليقين، أحدا من خلقه، إلا من ارتضى من رسول. أي: إلا رسولا ارتضاه لإظهاره على بعض غيوبه المتعلقة برسالته، كما يعرب عنه بيان {منِ ارْتضى} بالرسول تعلقا تاما، إما لكونه من مبادئ رسالته بأن يكون معجزة دالة على صحتها، وإما لكونه من أركانها وأحكامها كعامة التكاليف الشرعية التي أمِر بها المكلفون، وكيفيات أعمالهم، وأجزيتها المترتبة عليها في الآخرة، وما تتوقف هي عليه من أحوال الآخرة التي من جملتها قيام الساعة والبعث، وغير ذلك من الأمور الغيبية التي بيانها من وظائف الرسالة. وأما ما لا يتعلق بها على أحد الوجهين من الغيوب التي من جملتها قيام الساعة، فلا يظهر عليه أحدا أبدا، على أن بيان وقته مُخِلٌّ بالحكمة التشريعية التي عليها يدور فلك الرسالة، وليس فيه ما يدل على نفي كرامات الأولياء المتعلقة بالكشف؛ فإن اختصاص الغاية القاصية من مراتب الكشف بالرسل، لا يستلزم عدم حصول مرتبة ما من تلك المراتب لغيرهم أصلا، ولا يدعي أحد لأحد من الأولياء ما في رتبة الرسل عليهم السلام من الكشف الكامل الحاصل بالوحي الصريح. انتهى.
وملخصه تقييد الغيب بما هو معجزة أو من وظائف الرسالة. وهكذا نحا النسفي في الجواب، مع بيان الفارق وعبارته: أي: إلا رسولا قد ارتضاه لعلم بعض الغيب، ليكون إخباره عن الغيب معجزة له، فإنه يطلعه على غيبه ما شاء: و{مِن رّسُولٍ} بيان {منِ ارْتضى} والولي إذا أخبر بشيء فظهر، فهو غير جازم عليه، ولكنه أخبر بناء على رؤياه، أو بالفراسة. على أن كل كرامة للوليّ فهي معجزة للرسول. انتهى.
وقال الرازي: وعندي أن الآية لا دلالة فيها على شيء مما قالوه- يعني الزمخشري ومن تابعه- والذي تدل عليه أن قوله: {على غيْبِهِ} ليس فيه صيغة عموم، فيكفي في العمل بمقتضاه أن لا يظهر تعالى خلقه على غيب واحد من غيوبه، فنحمله على وقت وقوع القيامة، فيكون المراد من الآية أنه تعالى لا يظهر هذا الغيب لأحد، فلا يبقى في الآية دلالة على أنه لا يظهر شيئا من الغيوب لأحد.
قال: والذي يؤكد هذا التأويل أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية عقب قوله: {إِنْ أدْرِي أقرِيبٌ مّا تُوعدُون أمْ يجْعلُ لهُ ربِّي أمدا} يعني: لا أدري وقت وقوع القيامة، ثم قال بعده: {عالِمُ الْغيْبِ فلا يُظْهِرُ على غيْبِهِ أحدا} أي: وقت وقوع القيامة من الغيب الذي لا يظهره الله لأحد. وبالجملة فقوله: {على غيْبِهِ} لفظ مفرد مضاف، فيكفي في العمل به حمله على غيب واحد. فأما العموم فليس في اللفظ دلالة عليه.
فإن قيل: فإذا حملتم ذلك على القيامة، فكيف قال: {إِلّا منِ ارْتضى مِن رّسُولٍ} مع أنه لا يظهر هذا الغيب لأحد من رسله؟
قلنا: بل يظهره عند القرب من إقامة القيامة، وكيف لا وقد قال: {ويوْم تشقّقُ السّماء بِالْغمامِ ونُزِّل الْملائِكةُ تنزِيلا} [الفرقان: 25]، ولا شك أن الملائكة يعلمون في ذلك الوقت قيام القيامة، وأيضا يحتمل أن يكون هذا الاستثناء منقطعا، كأنه قال: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه المخصوص- وهو يوم القيامة- أحدا. ثم قال بعده: لكن من ارتضى من رسول، فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه حفظة يحفظونه من شر مردة الإنس والجن؛ لأنه تعالى إنما ذكره هذا الكلام جوابا لسؤال من سأله عن وقت وقوع القيامة على سبيل الاستهزاء به، والاستحقار لدينه ومقالته. وملخصه تخصيص الغيب بوقت وقوع القيامة بدلالة السياق، والرسول بالملك.
وناقشه في(العناية) بأن المرضي حمل الرسول على المتعارف لدلالة السياق والسياق عليه هذا، ونقل النسفي عن التأويلات ما مثاله:
قال بعضهم: في هذه الآية تكذيب المنجمة، وليس كذلك، فإن فيهم من يصدق خبره، وكذلك المتطببة فإنهم يعرفون طبائع النبات، وهذا لا يعرف بالتأمل، فعلم بأنهم وقفوا على علمه من جهة رسولٍ انقطع أثره، وبقي علمه في الخلق. انتهى.
وهذا الجواب يلجأ إليه المتفقهة زعما بأن معرفة مواقيت الكسوف، وخواص المفردات مما يشمله علم الغيب. والصواب عدم شموله لمثله؛ لأنه مما يتيسر للناس أن يعرفوه بالنظر والاستدلال والتجربة والبحث، كالعلوم الرياضية والطبيعية والزراعية والصنائع والهيئة الفلكية.
وبالجملة فكل ما يمكن للإنسان أن يصل إليه بنفسه لا يكون من الغيب في شيء؛ ولذا قال بعض الحكماء: لو كان من وظيفة النبيّ أن يبين العلوم الطبيعية والفلكية، لكان يجب أن تعطل مواهب الحس والعقل، وينزع الاستقلال من الْإِنْساْن، ويلزم بأن يتلقى كل فرد من كل شيء بالتسليم ولوجب أن يكون عدد الرسل في كل أمة كافيا لتعليم أفرادها في كل زمن ما يحتاجون إليه من أمور معاشهم ومعادهم. وإن شئت فقل: لوجب أن لا يكون الْإِنْساْن هذا النوع الذي نعرفه. نعم، إن الأنبياء ينبهون الناس بالإجمال إلى استعمال حواسهم وعقولهم في كل ما يزيد منافعهم ومعارفهم التي ترتقي بها نفوسهم، ولكن مع وصلها بالتنبيه على ما يقوي الإيمان ويزيد في العبرة، وقد أرشدنا صلى الله عليه وسلم إلى وجوب استقلالنا دونه في مسائل دنيانا في واقعة تأبير النخل إذ قال: «أنتم أعلم بأمور دنياكم» انتهى. فاحفظه فإنه من المضنون به على غير أهله. وقوله تعالى: {لِيعْلم أن قدْ أبْلغُوا رِسالاتِ ربِّهِمْ وأحاط بِما لديْهِمْ وأحْصى كُلّ شيْءٍ عددا} [28]
{لِيعْلم أن قدْ أبْلغُوا رِسالاتِ ربِّهِمْ} متعلق بـ {يسْلُكْ} غاية له. والضمير إما لـ(الرصد)، وإما لـ {منِ ارْتضى} والجمع باعتبار معنى من، أي: ليبلغوا، فيظهر متعلق علمه. وإيراد علمه تعالى للعناية بأمر الإبلاغ، والإشعار بترتيب الجزاء عليه، والمبالغة في الحث عليه، والتحذير عن التفريط فيه.
{وأحاط بِما لديْهِ} أي: بما عند الرصد، أو الرسل عليهم السلام. حال من فاعل {يسْلُكْ} جيء بها لتحقيق استغنائه تعالى في العلم بالإبلاغ عما ذكر من سلك الرصد.
{وأحْصى كُلّ شيْءٍ عددا} أي: فردا فردا لسعة علمه. تقرير ثان لإحاطته بما عند الرسل من وحيه وكلامه، ووعد ووعيد كما عرف من نظائره. اهـ.